تمثل مدينة الدار البيضاء المجال الرئيسي لجهة الدار البيضاء-السطات ، وتنتمي جغرافيا للشاوية ، وبحكم موقعها الساحلي المتواجد وسط خط الإنتاج الصناعي، بين القنيطرة شمالا والجرف الأصفر جنوبا، فإنها تحتل مكانة إستراتيجية.
1- الأصل الفينيقي : اعتبر الرحالة مارمول كرفجال أن أنفا الواقعة على الساحل المحيط من المدن الفينيقية التي بناها حانون خلال رحلته، وذكر أنها تقع على الساحل وأنها تقع بين الرباط وأزمور، هذا الطرح أكده كذلك هاشم المعروفي .
2- الأصل الروماني : ذكر حسن الوزان بقوله : "أنفا مدينة عظيمة أسسها الرومان في شاطئ البحر المحيط على نحو ستين ميلا شمال الأطلس، ونحو ستين ميلا شرق أزمور" .
الأبحاث العلمية و الدراسات تدفع إلى الاعتقاد بأن مدينة أنفا تأسست خلال نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الميلادي، وهي مرحلة مرتبطة بوصول الفتوحات الإسلامية لبلاد المغرب و اختلاط موجات من المهاجرين العرب من بنو هلال ببعض السكان الأصليين للدارالبيضاء و منطقة الشاوية .
المعلومات المتوفرة حول تاريخ المدن والأقاليم المجاورة لهذه المدينة بمنطقة الشاوية والشعوب المستقرة بجانبها تقدم نظرة عامة للظروف المرتبطة بالبدايات الأولى لهذه المدينة. فبالنسبة لابن خلدون، منذ البدايات الأولى للإسلام لوحظ حضور البورغواطيين سواء من حيث العدد أو القوة، مما يرجح أن ساكنة تامسنا (الشاوية) كانت تتوفر على هياكل تضم كل القبائل التابعة لهذه المنطقة تحت قيادة طريف، وقد استمرت المقاومة البورغواطية قرابة أربعة قرون إلى حين تولي سابع أمرائهم مقاليد السلطة .
داخل هذا النسق التاريخي المتحول نشأت مدينة آنفا وتطورت، وحول المكانة التي كانت تحتلها يقدم حسن الوزان مجموعة من التدقيقات المهمة حيث يقول : "وكم كان بداخل أنفا من مساجد ودكاكين في غاية الحسن، وقصور شامخة يمكن رؤيتها والتأكد من الآن من خلال الآثار الباقية! وكم كان فيها أيضا من البساتين وكروم! ومازالت لحد الآن تجنى منها كميات عظيمة من الثمار، ولاسيما البطيخ والخيار والتي يبدأ نضجها في منتصف أبريل" ، وبالنسبة إليه فإن المرتبة التي تحتلها هذه المدينة تندرج في الرتبة المتميزة التي تحتلها داخل مجال تمسنا(الشاوية) بالإضافة إلى الوصف الدقيق للطرق الرابطة بينها وبين باقي المدن بالمنطقة مما يدل أن هذه المدينة عرفت انتعاشا حضاريا في عصر المرينيين في الوقت الذي ظل الطابع القروي السمة الرئيسية للعديد من المدن الأخرى.
لقد ظلت نشأة مدينة أنفا محط اهتمام الباحثين والمؤرخين إلى غاية ظهور نتائج مجموعة التنقيبات الأثرية والتي كشفت عن آثار وجود الإنسان ما قبل التاريخ بموقع سيدي عبد الرحمان حيث تم اكتشاف "أصداف وشضايا وفؤوس وأحجار صوانية وبقايا عظام بشرية ومساكن مليئة بالخزف والفخارة" والذي يعود تاريخه إلى العصر الحجري، وذلك ضمن مواقع أخرى منها : موقع ليساسفة الذي يقدر تاريخ وجوده بين 5 و6 ملايين سنة، وموقع أهل الغلام، وعمره مليونان وخمسمائة سنة، وموقع طوما 1، هو شاهد على أول وجود إنساني منذ ملايين السنين.
وبالاعتماد على هذه المعطيات الجديدة، والتي جعلت إشكالية أصل مدينة الدار البيضاء تطفو على السطح من جديد، اعتبر هاشم المعروفي أن لمدينة الدار البيضاء وجود يعود لفترة العصر الحجري القديم حيث أكد عن وجودها التاريخي منذ فترة العصور الحجرية القديمة مستندا في ذلك على اكتشافات علماء الآثار في بعض أحياءها حيث عثر على العديد من الأحجار المنحوتة والمصنوعات البشرية والأصداف والرماد وبقايا الأكل وعثر على كل هذا في أحياء الوازيس ومرس السلطان وعين الشق... .
وخلال القرن الخامس الهجري الموافق الحادي عشر الميلادي، نجد ورود ذكر مدينة أنفا من جديد في إطار صراع المرابطين مع قبائل بورغواطة قصد إخضاعهم، وتختلف الروايات حول هذه الحادثة؛ فابن أبي زرع أشار إلى أبي بكر بن عمر "سار حتى نزل بظاهر مدينة آنفا، ثم دعا بأشياخ العرب، فثقف منهم ستين شيخا بسجن آنفا، وضرب أعناق عشرين رجلا من أشرارهم الذين كانوا يقطعون الطرق بتلك الجهات وصلبهم على أسوار آنفا" ، كما تولى قيادة الجيوش المرابطية سنة 452هـ الموافق 1060م وهزم هذه القبائل وحاصرها بمدينة أنفا بعد وفاة عبد الله بن ياسين أثناء هجومه عليهم، في حين أن الزياني يذكر أن عبد الله بن ياسين نزل مدينة أنفا حاصر البورغواطيين بها سنة 453هـ إلى أن دخل عليهم عنوة فاستباحهم ولم يفلت منهم إلا من اختفى في قناة أوبير ومحا آثار ديانتهم . وقد أكد ذلك الشريف الإدريسي في إطار وصف لجغرافية مدينة أنفا وطرقها ومسالكها وقراها ومرسى فضالة والعيون والآبار والأنهار والغابات والحيوانات المفترسة وكيفية صيدها، بالإضافة إلى علاقتها بالمدن المجاورة، حيث يصف علاقتها بمرسى بقوله : "ومن فضالة إلى مرسى أنفا أربعون ميلا، وهو مرسى مقصود تأتي إليه المراكب. وتحمل منه الحنطة والشعير. ويصل به من ناحية البر عمارات من البربر من بني يدفر ودكالة وغيرهما. ومن أنفا إلى مرسى مازيغن خمسة وستون ميلا روسية. ومن مازيغن إلى البيضاء جَوْن ثلاثين ميلا. ومن البيضاء إلى الغيط خمسون ميلا. وهو جون ثان. ومن الغيط إلى آسفي خمسون ميلا. ومن أنفا إلى طرف جبل الحديد ستون ميلا. ومن جبل الحديد إلى الغيط الذي في الجون خمسون ميلا. وكذلك من طرف مازيغن إلى آسفي روسية خمسة وثمانون ميلا وقديرا مائة وثلاثون ميلا".
ولما وصل بنو مرين للسلطة بايع سكان مدينة أنفا بدون قتال السلطان يعقوب المنصور بن عبد الحق سنة 658هـ/1200م. وخلال هذه الفترة زار لسان الدين بن الخطيب مدينة أنفا واستقر بها واتصل بعلمائها، وقدم في كتابه "المعيار" وصفا عن التطور الذي عرفته المدينة من الناحية الاقتصادية والتجارية والعمرانية وعلاقاتها التجارية التي كانت لأهلها مع الأوروبيين، كما قدم مقارنة لها بالمدن المغربية من الناحية الاقتصادية والعمرانية حيث قال أنفا : "جون الحط والإقلاع ومهبط السلاع تهوي إليه السفن شارعة وتبتدرها مسارعة تصارف برها الذهبي بالذهب الإبريز. وتراوح برها وتغاديه بالتبريز . . . وفواكهها طيبة، وأمطار عصيرها صيبة، وكيلها وافر، . . . والعرب عليها في الفتن ملحة، والأمراض بها تعيت وتبعث، والخزين بها لا يلبث" .
ونظرا للضعف الذي عرفته دولة بنو مرين بسبب ما أصابها من الانحلال في جهاز الحكم وسوء تدبير شؤون الدولة ، ففي سنة 1468م استولى البرتغاليين على مدينة أنفا لسببين اثنين : "أولهما أنهم أرادوا العيش أحرارا دون أن تتوفر لهم الوسائل اللازمة، والثاني أنهم كانوا يسلحون في مينائهم الصغير زوارق خفيفة يقومون على متنها بالإتلاف والتخريب في شبه جزيرة قادس، وعلى طول الشواطئ البرتغالية" ، مما دفع بملك البرتغال إرسال أسطول بحري يشتمل على خمسين سفينة حربية تحمل عشرة آلاف مقاتل من اجل هدمها وتدميرها، وقد وقف الرحالة مارمول على آثار هذا التخريب وقال : " ولازالت أطلال الجدران القديمة قائمة العين بها إلى الآن نشاهدها بالعيان لكثرة متانة بنائها وكذلك بعض المساجد بها" . ولما رجعوا إليها 1515م ظهرت لهم دار بلون أبيض سلمت من الهدم والتخريب سموها كازابرانكا.
وفي عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وأثناء رجوعه من مدينة الصويرة يوم السبت 16 ربيع الثاني عام 1119هـ موافق 1784م وقف على وضعية مدينة آنفا وهي مخربة إلا البناء الذي بقي بها، وهو عبارة عن دار بلون أبيض سلم من الهدم، فأمر ببنائها وبناء أسوارها وكلف لذلك خبراء لتصميمها وتخطيطها، أطلق عليها اسم "الدار البيضاء" وهي ترجمة لكلمة كازابرانكا البرتغالية والتي حولها الإسبان إلى لغتهم وأصبحت كازابلانكا، كما عمل على نقل جالية من أهل حاحا قصد تعزيز الجيش البخاريين وتأمين حراسة المدينة معلنا بذلك بداية الهجرات التي ستعرفها المدينة لاحقا خصوصا من قبائل الشاوية وبعض سكان مدينتي فاس والرباط كما ورد عليها طائفة من أهل العلم بغرض الإقراء والتدريس بها.
وبناء على حق الامتياز الذي منحه السلطان سيدي محمد بن عبد الله لشركة اسبانية قصد تصدير الحبوب مما ساهم في تطوير العلاقة التجارية بين الدار البيضاء الإسبان، وبذلك دخلت المدينة مرحلة جديدة من تاريخها، والذي يميز تطور النشاط التجاري وتعدد جنسيات التجار الوافدين، والجدول التالي يبين تطور حجم الساكنة الأوروبية بالدار البيضاء خلال القرن 19
إن المكانة التجارية التي أصبحت تحتلها مدينة الدار البيضاء نهاية القرن التاسع عشر بالإضافة لموقعها الجغرافي المتمثل في انتسابها للشاوية وما تزخر به من خيرات جعل منها محط أطماع الدول الاستعمارية الأوروبية، وعرف احتلالها من طرف فرنسا سنة 1907 مقاومة عنيفة شاركت فيها مختلف قبائل الشاوية، عرفت المدينة موجات جديدة من الهجرات من جميع مناطق المغرب إلى جانب الهجرات الأوروبية , سنة 1921 بسبب توافد المغاربة نتيجة الوضعية الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها البوادي المغربية خلال القرن 19 والضغط العسكري والاقتصادي الذي مارسته القوى الاستعمارية على البوادي المغربية، بالإضافة إلى توافد الأجانب بسبب الحرب العالمية الأولى أو الرغبة في التجارة.
مقال بتصرف
جواد بنسعيد البوعمري